الغربـــــــــــة و البحث عن الذات..

قصة قصيرة من تأليفي و نسج خيالي ..
.كان الوقت قد شرع في لملمة أشعته الناصعة ليفسح الفضاء لغربة الليل المستبدة حينما حللت بمطار نيويورك.تلك القطعة الفنية الرائعة التي تجمع أحدث التقنيات المصممة بشكل غايته توفير أقصى ظروف الراحة التي يرجوها المرء: نظافة و خدمة و حسن استقبال..-نيويورك ,إنها تلك المدينة التي تتكلم سحرا .فلغة أضوائها تفتن الأصم الأبكم . و حركة أهلها أشد قسوة من صمت المقابر- ولكن مع ذلك فهي تستهوي الباحث عن الأدب و طالب المتعة أو حتى من يقصد الضياع.
لم أنتظر طويلا حتى توقفت أمامي سيارة أجرة . ركبتها طالبا من سائقها أن ييمم صوب المدينة في اتجاه فندق ما أقضي فيه ليلتي.
_ أنا "توم " هذه مهنتي منذ ما يزيد عن عشر سنين يا سيدي . أستطيع أن أتبين ملامح زبنائي من أول وهلة. وأنت من خلال سمرتك و شعرك الأسود و جبهتك العريضة.لن تكون إلا عربيا.فهل أنت من أرض الفراعنة ؟

لقد أثارني تطفل هذا السائق . ولكن ملل الطريق جعلني أنساق لرغبته في الكلام. فأجبته : بل أنا سوري .
_ هل هي قريبة من مصر ؟
تعجبت لحال أبناء الغرب . فهم لا يعرفون الدول العربية الا حينما يغزونها _ أجل . أجل هي جارة مصر . وعاصمتها دمشق.
_ أه..لازلت أتذكر هذا الاسم جيدا. كنت أسمعه في دروس التاريخ..كم كانت تلك الأيام جميلة...
طوت السيارة الطريق طيا. و السائق قد انشغل عني بموسيقى "الجاز" .
أخيرا تحدث الي : هأ نت قد وصلت يا سيدي .
_ شكرا..
دفعت له الأجرة و ودعته.ثم توجهت الى فندق أنزلني السائق بالقرب منه.لم يكن فندقا فاخرا . كما أنه لم يكن أيضا من طينة الفنادق التي يرتادها السوقة من الناس.فأنا بحكم دخلي المحدود لا أقدر على ولوج الفنادق الفخمة.و لكون الفنادق المصنفة بنجومها الكثيرة تلتهمني بكثرة أثاثها فأحس أنني كائن مشيء ..بسيط ماديا..لا قيمة لي.إلا بقدر ما أملك في جيوبي. أما النوع الثاني من النزل فإن من يقصدها يقصد الجحيم بعينه.
كان الفندق الذي دخلته نظيفا . وضعت أثاثه بشكل مرتب ينم عن ذوق من تكلف بترتيبه. و هذا ليس غريبا على الامركيين .فكل حياتهم منظمة .و كأن لا شغل لموظفيهم سوى التنظيف و التطهير..عكسنا نحن في البلاد العربية . إذ لا نتفقد بيوتنا إلا في الأعياد أو المناسبات الخاصة.لم يكن فندق "كولومبوس" بأجمل من الفندقية التي تجلس في مكتب الإستقبال . مرحبة بابتسامتها الساحرة.. بكل زائر جديد..كانت فتاة شقراء في مقتبل العمر.طويلة القامة.خفيفة الحركة.ترتدي ملابس أنيقة متناسقة الألوان..
_ أهلا بك سيدي أنا "ماريا" في خدمتك؟
_ شكرا. هل لي بغرفة ليلية واحدة؟.
_ بكل تأكيد..جواز سفرك من فضلك .
_ نعم تفضلي.
أخدت في تعبئة الإستمارة .ثم مدتني بها لأوقعها.
_ بإمكانك أن تصعد للغرفة رقم 254 لترتاح قليلا. ثم بستطاعتك أن تنزل بعد ذلك لتتناول وجبة عشاء في المطعم.
_ شكرا أنيستي.
إستعملت المصعد للوصول إلى الغرفة.حيث ألقيت بعضا من عناء السفر. بفضل مياه الحمام الدافئة.إستلقيت على ظهري فوق السرير.فاسترجعت لحظات متقطعة من رحلتي مع الحياة..لم تكن رحلة يسيرة..لقنتني من خلالها الحياة دروسا في الفقر و المعاناة..
لم أسمح لأفكاري لأن تأخذني بعيدا . فوقفت من على السرير متجها نحو المطعم.سررت كثيرا لما وجدت "موظفة الإستقبال" جالسة لتناول العشاء.فاستأذنتها للجلوس معها فوافقت
_ إسمي "غريب" و أنا من سوريا .
_ نعم.عرفت ذلك من خلال جواز سفرك..أنا "ماريا" و بالطبع أمريكية..بالمناسبة كنت أود أن أسألك عن دلالة إسمك "غريب".
"غريب" تعني أنني أعيش خارج وطني.أو بالأحرى خارج ذاتي.
_ هل أنت فيلسوف؟
_ كلا أنا روائي . ومعنى أنني أعيش خارج ذاتي. لا يحتاج إلى تفلسف-(مبتسما)-.فوجودنا كان دائما سؤالا محيرا.وإن قال بعضهم : " أنا أفكر اذن أنا موجود"البحث عن الذات هو هم كل إنسان في هذه الحياة.
_ كلام جميل..فأنا أيضا تفترسني غربتي ..لما بلغت سن الثامنة عشر خرجت من منزل العجوزين.
_ أي عجوزين؟
_ أبي و أمي.
_ هل هما كبيرين ؟
_ كلا و لكن نحن هنا إذا خرجنا عن الأهل نناديهما بالعجوزين.هل تعلم نحن نفتقد حرارة الشرق فأنتم تختلفون عنا كثيرا تحبون بعضكم .تعيشون تحت غطاء الأسرة لفترات طويلة ..و حياتكم أغنى بكثير عن حياتنا .
_ لم يعد الشرق كما قرأت عنه في قصص "ألف ليلة وليلة" يا أنستي لقد صرنا نسخة مشوهة عنكم . لقد غزتنا حضارتكم بأسلحتها و بأفكارها . فرددنا السلاح بالسلاح و لكن الأفكار كانت أقوى فهزمتنا في عقر بيوتنا .
_ أوقفني مجيء النادل عن إسترسال الحديث .
_ ماذا تطلب للعشاء يا سيدي ؟
_ هامبورغر و بعض السلطة و عصير برتقال.
_ على الرحب و السعة .
بعد هنيهة وضعت الأطباق على الطاولة فشرعت في تناول وجبتي . و سحر "ماريا" شمعة تكسر ظلمة ذاتي . لم أكن اعلم قبل اليوم أن الكثير مما نعتبره نحن عيوبا في ثقافتنا و أحيانا تقاليد بالية . نحسد عليه من طرف الأخرين . لم اكن أعلم أن حياة العلم و التقدم أفقدت الغربيين الشعور بدفء المكان . و حميمية الأهل و العائلة ..كم أشفق على هؤلاء لقد قهرتهم نزعاتهم الفردية.
بعد وجبة العشاء إقترحت علي "ماريا" أن أزور مكتبة الفندق .فوجدت في عرضها فرصة مغرية لتجزية الوقت الذي يفصلني عن موعد نومي .
كانت المكتبة كبيرة بالنسبة لنا نحن أبناء سوريا . الذين لا نملك في بيوتنا سوى بعض الكتب المتواضعة.و التي غالبا ما يلقى بها في أماكن مهمشة حتى يترك فضاء البيت ليزين بالأطباق و الكؤوس و كأننا شعب صار كل همه في بطنه . بعدما كان أجدادنا يحملون مشعل العلم و الأدب و يضيؤون كل الدروب المظلمة.
في رفوف المكتبة قرأت أسماء كثيرة تتراوح مجالات إهتمامها بين السياسة و الإبداع و النقد الأدبي و الفلسفة . فرفوف خصصت لجوستاف فلوبير و رولان بارت و جوليا كريتيفا و أخرى لجون بول و ديكارت و أخرى لأرنولد تونبي و غيره من كتاب التاريخ
بقلم الطالب/ فــريــــــــــــــــــــد مـــــــــهـــــــــــــــداد

أناملك ساحرة.... وهذه القصة من نسج مبدع راقي اد تبلغ من الفصاحة ما يعطي لمسة ورونق على جو الأحداث
أخي الفاضل ..فلتحيى متألقا باموهبة التي تتسم بها ..